أمن دولة
" ملعون ابو الحكومة "
إنطلقت العبارة مدوية تهز أرجاء المقهى في حين تابع قائلها بفخر ساذج
_ نعم .. لم تعد تهمنى سياط جلاديهم و لا معتقلاتهم
فليدعوني اقولها بصراحة , ثم يفعلوا بي ما يشتهون بعدها
لقد كان جباناً حين رفض ان يفتح المعبر
توجه الى احد الجالسين و انتشل الجريدة التي انشغل بقراءتها و قال موجها الحديث اليه :
_ حتى انت يا عبد العاطي افندي كنت ستفتح المعبر لو كنت مكانه اليس كذلك ؟
مط عبد العاطي شفتيه ثم استرد جريدته واضعا اياها على المنضدة التي امامه وناظراً للأتجاه المعاكس ..
في قرارة نفسه أراد ان يقول " نعم " لكنه يعلم جيدا ان للحوائط آذان
يعلم أن المقهى يعج بأولئك الذين يعيشون على مصائب الاخرين و فواجعهم و كوارثهم ..
مرشد أمن الدولة قد يكون رقيق القلب مرهف المشاعر لا يحب الاذى للأخرين
لكنه في الوقت نفسه لا يرغب في قلة الشغل , لديه متطلبات و اعباء و افواه مفتوحة على مصرعيها في انتظار و لو لقمة واحدة تسد الرمق
إذا لم يصطاد فريسة لعدة ايام فإنه لا يبالي بالارشاد عن اي شخص ولو زورا
و محي باشا _ أو اي كان اسمه _ لا يرحم
كان عبد العاطي يعلم ذلك كله لذلك آثر ان لا يتكلم
فقط اكتفي بإطلاق زفرة حارة بث فيها كل لواعجه
اطلقها بكل شجاعة فهو يعرف ان أمن الدولة لا يلقى القبض على المواطنين بتهمة الزفرات الحارة بعد
.
.
اشاح الرجل الموتور بيديه ثم امسك بيد صبي المقهى المشغول بتقديم الطلبات و قال له :
_ أنت تعرف يا " صديق " أنه خائن و عميل و لكنك تدعي الجهل بالسياسة
تريد ان تأكل عيش و تذهب اخر اليوم لزوجتك و اولادك و تنام في سلام , بينما اخوانك في غزة يحرقون و ينسفون و يصابون بالسرطان .. !
نظر اليه صديق متظاهرا بالغباء .. و حك شعر رأسه قائلا :
_ انت بتكلمني انا يا " طلبة " بيه ؟
لم يكن صديق بمنأى عن السياسة حقا , و لم يكن اقل سخطاً من عبد العاطي افندي
خاصة و هو الشاب الذي حصل على ليسانس الحقوق فقط ليعمل " قهوجي " بعد ذلك
كان يعلم ان فرص العمل المحترمة لا تأتي الا لأولاد " الباشوات " فقط
و هو لم يكن يوما ابن باشا لكي ينال مكانة تعب و اجتهد و بذل ابويه كل غال و نفيس لكي يحصل عليها
كان يملك من الاسباب ما يجعله يصب جام غضبه على الحكومة
لكنه كان اعقل من ان يتهور فيندم
هناك اب قعيد و ام مكلومة وأربعة من الاخوة قد يشردون لو فقدوا عائلهم الوحيد
ليس الوقت وقت سياسة على الاطلاق
.
.
_ أيها الجبناء .. !
تباً لكم .. و لمرشدي أمن الدولة .. و للحكومة ايضاً
لن يمنعني اليوم اي شىء عن قول الحقيقة
قالها " طلبة " و جلس جوار شخص لا يعرفه
شخص يراه لأول مرة
و هو الذي يحفظ مرتادي المقهى عن ظهر قلب
ليس من الحكمة ان تدلي بكل ما لديك امام رجل لا تعرفه
_ سامحنى .. هل انت جديد في المنطقة ؟
رد عليه الرجل بتهذيب :
_ ليس تماما .. مررت بالحارة مصادفة .. فتوقفت لإلتقاط الانفاس و احتساء فنجان من القهوة
_ و ما رأيك ؟
_ القهوة جيدة فعلا
_ أقصد ما رأيك في كلامي ؟
_ عين العقل والحقيقة , كنت ابحث طوال النهار عن شخص استطيع التحدث معه في مثل هذه الامور دون خوف
لكن يبدو ان الاحداث الاخيرة اصابت الجميع بالجبن
_ إذا فأنت ترى انه خائن و عميل ؟
_ بالظبط .. لن يمنعني احد عن الاقرار بحقيقة مثل تلك
استدار الرجل نصف استدارة على كرسيه ليواجه عبد العاطي افندي و صاح في فرح :
_ هل رأيت يا عبد العاطي .. ؟ يقول انه عميل .. هناك إناس لا تخشى في الحق لومة لائم
عليك حقا ان تخجل من نفسك
لم يلق رداً من عبد العاطي الذي تظاهر بانهماكه في القراءة
* * *
"
يعلم أن المقهى يعج بأولئك الذين يعيشون على مصائب الاخرين و فواجعهم و كوارثهم
"
* * *
أخرج " طلبة " علبة سجائر و قدم واحدة الى الغريب بإمتنان واضح في حين تابع :
_ و الصحف الحكومية لا تكف عن تبرير موقفه و شجب تصريحات رجل شريف مثل نصر الله
شىء يجعلك تشعر ان المصريين كلهم متواطئين مع المجازر الاسرائيلية ضد اخواننا الفلسطينين
و كأننا لسنا مصريين و لا نمت لهذه البلد بصلة
أومأ الرجل برأسه بما يعني انه يوافقه الرأي و اكتفى بالتعليق بكلمة واحدة
_ مظبوط
* * *
"
إذا لم يصطاد فريسة لعدة ايام فإنه لا يبالي بالارشاد عن اي شخص ولو زورا
"
* * *
_ لقد أرتحت لك كثيرا .. أنت نموذج للرجل الشريف .. , دعنا نذهب لمكان آخر يبدو ان الحديث بيننا سيطول اكثر
من الصعب العثور على شخص مثلك هذه الايام
قالها " طلبة " و امسك بيد الرجل الغريب ناهياً اياه عن وضع يده في جيبه
فقد عزم على دفع الحساب
ثم انطلقا بحثا عن مكان اخر يسع نقاشاتهم السياسية الخطيرة
.
.
في وقت لاحق سيميل صديق صبي المقهى ليقترب من أذن عبد العاطي هامسا :
_ أنا خائف على الاستاذ " طلبة "
الرجل الذي خرج معه لم يكن يوحي بالثقة
سينظر اليه " عبد العاطي " وقتها و يقول هازئاً :
_ أما انا فأخاف أكثر على هذا الرجل الغريب
الذي ساقه حظه التعس الى المقهى في هذه الساعة السوداء
..
عبد الحميد محمد